كثيرٌ من الناس قد تنازعوا حول موضوع قانون الحياد، وتضاربت الآراء والفلسفات حولها؛ قال البعضُ عن الصراط المستقيم، وتأثّر من تأثر بالمنهج غير القويم . وهو خلافٌ ما بين الدينLa Religion، و اللادينية الربوبية Le Théisme . وأهمية تتجلى في عدم تناوله في مسالك العقيدة إلا ضمنا وعرضاً، ولم يتمَّ الوضع فيه إفراداً فيما نعلم، وفي تقريره نفضٌ للغبار عمّا اصاب الناس في هذا الباب، وردّاً على شبهاتٍ صدّعَ بها أهل الباطل الرؤوس، وقد ظننا أن الحق ملجوم بظهوره لا يُحتاج إلى من يخرجه.
تحرير محل النزاع في قانون الحياد
يتحتم أولا قبل الشروع في نقض هذه الفكرة، أن نوضحها في أذهان القراء الكرام، وأن نقوم بتحرير محلّ النزاع، فالخلاف الموجود بين اللادينية الربوبية والدين، هو في إنزال الشريعة والدين للبشرية من عدمه، وهو ما يعنيه أصحابه ” الحياد الإلهي ” . أما الدينية الربوبية فهي تؤكد على عناية الله للخلق، وتدبير الكون وغير ذلك بدرجاتٍ متفاوتةٍ، لكن اللادينية في مجتمعاتنا العربية لم تأخذ في عمومها لادينية الغرب، بل تناولوا فكرة ” الحياد الإلهي ” وقالو عدم تدخّل الإله في تدبير الكون والخلق، حتى أنكروه والعياذ بالله وخالفوا أئمتهم في ذلك . ومردُّ ذلك إلى الجهل بفلسفة اللادينية كما وضعها منظروها وفلاسفتها. هنا سوف نركز على ما قاله بنوا جلدتنا، ثم نعمد الى نقض هذه الشبهة؛ لأن الأولى جواب ما انتشر لا ما سُطّر في داخل الكتب.
غريزة التديّن تنقض فكرة قانون الحياد الإلهي
وذلك بإجماع علماء النفس والاجتماع، والملاحظ في النّفس الإنسانية؛ موجود فيها، لأن الإنسان كائنٌ رامزٌ، يبحث في اسباب الوجود وعلّة وجوده، وعن السلوى في الكتب الدينيّة، وأول دليلٍ على ذلك: النسبة الكبيرة للمتديّنين في العالم، فبحسب احصائية عالمية لسنة 2013 م، تبين أن 84 % من سكان العالم ينتمون لطوائف دينية
علماً بأن الإحصائية ارتكزت على الأديان العالمية المشهورة، ولم تعطي اي انتباه للأديان الصغيرة الإفريقية الآسيوية وغيرها، كذلك المواليد والمرضى العقليين وغيرهم !
ومن جهةٍ ثانية: ما توافقت عليه العلوم الإنسانية المختصه بدراسة الأديان، حيث أجمعوا على حاجة الإنسان للدين، وتُخبرنا موسوعة لاروس الفرنسية Encyclopédie Larousse ان : ” إنَّ الغريزة الدينية مشتركةٌ بين كلّ الأجناس البشرية، حتى أشدِّها همجيةً، وأقربها إلى الحياة الحيوانية .. وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي، وبما وراء الطبيعة، هو إحدى النَّزعات العالَمية الخالدة، وهذه الغريزة الدينية لا يمكن اخفائها ، بل لا تضعف ولا تذبُل إلا في فترات الإسراف في الحضارة، وعندَ عددٍ قليلٍ جدّاً من الناس”.
وبذلك فكرة الحياد الإلهي ساقطةً، لأجل ما عُلم عقلاً بأن الإله الخالق من صفاته الحكمة وتعليه عن العبث، فيكون في وضعه جل جلاله لغريزة التديّن دون إشباعها وبعث الرسل ، عبثٌ يتنزّه عنه الخالق سبحانه وتعالى، وإرسال الرسالة في ذاته هو تدخُّل في الكون ومناقضٌ ل قانون الحياد الذي تحدثو عنه، وهذا أوّلُ الغيث.
دعوات الإنسان الى الخالق تناقض مفهوم قانون الحياد الإلهي
وهذا دليلٌ يقارب الدليل السابق، حيث أن غالبيّة أهل الأرض يدعون الله لتحقيق مآربهم، في السراء والضراء ، فهذا مريض يريد الشفاء، وذاك فقير يريد الغنى، وتلك مكروبةٌ تسأل الفرج، وأولئك طلاب يريدون النجاح، وهذا يريد زوجةً والآخر يريد الطلاق في سلامٍ … وهكذا . فإن كان الحياد الإلهي معمولاً به، لكان من الطبيعي للنفس الإنسانية عدم سؤال الخالق والتوجه إليه بالدعوات . وإلا فما الحكمة من خلق الخلق بهذا النزوع وتلك الآليات، والله عزّ وجل محايدٌ لا يتدخل في مقادير البشر –كما يزعم الربوبيّون-؟!
العناية الإلهية والقضاء والقدر ينقضان مفهوم قانون الحياد
ومفهوم العناية الإلهية أمرٌ مشاهدٌ في حياة الناس، هناك أناسٍ خرجوا سالمين من حوادث ومصائب تكونُ علميّاً مميتةً وقاتلة، يضاف إلى ذلك القضاء والقدر، فكم من رزقٍ ساقه الله لأناس كفاراً كانوا أو مؤمنين لم يتوقعوه ولم يظنوه ، وتلك طائرةٌ سقطت غابَ عنها مسافرٌ لتأخره في النوم أو لسبب اخر تأخر عن ميعاد الإقلاع، وطالبٌ مشتاقٌ للالتحاق بكليّة الفنون ففشل في الامتحان،فدخل اختصاص أخر فنبغ فيه، وارتقى في المناصب المرموقة، حتى لو خيّر بأن يرجع بالزمن لاختار ما كان لا ما سيكون .. وغيرهامن الامثال مما يحكى من الناس.
الكون ناقضٌ لمفهوم قانون الحياد الإلهي
وهذا لما يتضمّنه من قوانين محكمة، وتصريفٍ للخيرات والعطاء ومنح للثروات لبعضٍ دون بعض، وكذلك كوارث طبيعية تضرب بلاد دون أخرى، أو أعاصير تصيب مدنٌ و تضرّ بها، فتهدأ أو تغير مسارها في آخر لحظةٍ واحدة وغيرها مما يُحكى ويُرى. ومن ذلك ما يقوله جون فوسترJohn foster : ” إذا أقررنا بوجود قوانين الطبيعة، فإن هذا الانتظام يمكن تفسيره ببساطة و باكمل وجه، بوجود إله قادر حكيم “
و الحكمة شئ مناقضٌ لمسألة قانون الحياد الإلهي كما أسلفنا.
ويقول الجيولوجي الفرنسي بيير تيرميي Pierre Termier : (العلوم كلها تجعلنا نعلم بأن الله موجود، وأن الروح موجودة، وأن الإيمان موجود، وأننا خُلقنا لأجل شئ فوق بشري).
العقل لا يقرُّ بفكرة قانون الحياد الإلهي
أن العقل مقرٌّ بكمال الله تعالى وحكمته، وتعليه عن العبث، وبذلك لايمكن خلق الكون والبشر وتركه هملاً، وهم محتاجون إليه جل جلاله، ومفطورون عليه، وكمال حكمته تقتضي بأن لا يخلق عباده ويتركهم ، ولا يعرّفهم عليه سبحانه، ولا أمرٍ لهم جامع، ولا نهي لهم مانع ، يقول الله عز وجل : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش العظيم } ( المؤمنون : 115، 116 ) . و اللادينية نفت الحكمة عن الخالق بإقرارها مبدأ قانون الحياد.
وكمال ألوهيته أن يكون هناك طاعه لله جل وعلا ، وأن يكون مطاعاً معناه أن يكون له أوامر، ومعرفة ذلك لا يكون إلا بالرسل، وبعث الرسل مناقضٌ للحياد المزعوم.
وكمال ربوبيته سبحانه وتعالى ان يقيم الحجة على الخلق لأن الجزاء لا يكون إلا بعد الإنذار، وليس كما يزعم اللاديينيون بأن العذاب على الكافر دون إنذار في الآخرة. وكامل ملكه وسلطانه ،يكون بتدبير شؤون الكون وإنزال الشريعة وتقدير أرزاق الخليقة وأشباهها.
معتقد قانون الحياد الإلهي ناسباً إلى الخالق صفات نقص
وذلك يتجلى في
إهماله لعباده وعدم بعثه لدين يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقد عُلم أن الباطل كثير ذو وجوه عديدة، فهذا ساجدا لحيوان، وذاك يعبد بشراً، وآخر يدعوا صنماً، والرابع ملحدو والخامس يعبد الشياطين، والسادس يعبد الكواكب ، إلى آخره ..فكان الأولى إذْ خلقهم أن لا يدعهم هَمَلاً دون استدلال، وقد علم أنهم ليسوا سواء في العلم والفهم، فلم يُنزل ديناً كي يعرفنا بنفسه، وترك البشرية تعاني وحدها وتبحث عن الخالق، تعالى الله أن يكون كذلك.
أنه وضع في النفس محبة الدين بمعتقداته وروحانياته كمحبة العبادات والطقوس الدينية، فكان اعتقاد الحياد الإلهي المزعوم ينسب له الخطأ في هذا ، فلم ينزل ديناً ذو عبادات حتى يُرضي هذه الحاجة الروحيّة.
-أن الإنسان يتطلع إلى المعرفة، مهتمٌّ بكل حديث عن ما وراء الموت، يريد أن يَعلم مصيره ، وهل هو على الحق أم على الباطل مستحق لما سيأتي بعده أم غير مستحق؟ فاذا لم يعلم ذلك عاش في قلقٍ دائم، وحلّ عليه التعب من حيث لا يعلم .