الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه على  أننا نعيش وقت فيه حركة تحفز تعلم القرآن وعلومه وتشجع على تدبره وحفظه وتلاوته على أكمل وجه والحمد لله على أناس تبذل جهدا وتقيم حلقات تدبر مجانية لا يريدون منها سوى الأجر من الله،، فهناك جزاهم الله خير من يقيمون الحلقات مستخدمين شتى وسائل التواصل لخدمة القرآن وهذا أمر حقا يثلج الصدر، لكني أقف عاتبة متساءلة لماذا التدبر وحلقاته لدينا قائمة على مجهود فردي قابل للتكرار والإعادةـ يعني يحضر أحدهم دورة يستمع فيها لتدبر من يقود الجلسة، لينقل من سمع التدبر ما سمعه للأخرين وهكذا ليس سوى عملية نقل لشخص إجتهد الملقي وبقي الأخرون مجرد مستمعين وناقلين لا أكثر. 

أنا لست ضد الإستماع وضد النقل مطلقا بل العكس إن الإستماع والنقل له أثره، ولكن لي عتابين أولهما لأؤلئك الذين يقيمون حلقات التدبر لماذا تكتفوا فقط نقل التدبر نقلا عما تلقيتم ولا تعلمون الناس كيف تتدبر، لماذا تشعروهم بالفضل أنكم تدبرتم عنهم، ما تفعلوه ليس سوى حلقات مبسطة للتفسير لا أكثر وهذا ليس تدبر مطلقا، وحتى التفسير علم يدرس فكيف أننا لا نقوم سوى بخلق نسخ مكررة لا تضيف شيئا

هذه الحلقات لا تقوم سوى على  إعادة للمعارف والإستنباط الذي استنبطه قائد الجلسة، لقد حضرت جلسات تدبر كثيرة لم يكن لنا في الحلقات سوى أن نبقى مستمعين لمادة تلقاها هذا الشخص قبلنا وقد يكون أضاف لها إستنباطه هو وتدبره مشكورا ولكن في المقابل كنا نمارس دور المتلقي فقط لا غير فهل أنزل القرآن لنتلقاه من تحليلات الأخرين فقط ؟!!

التدبر

( إذا لماذا قال الله في كتابه ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ  [سورة ص: الآية 29]

لاحظوا الهدف كتاب منزل على النبي لنتدبره وليس لنتلقاه تلقي الأعمى دون تفكير، لقد غاب عن أؤلئك القائمين على التدبر أن للقرآن مزايا لا تشبه مزايا بقية الكتب فالقرآن أيات كريمات غزيرات المعنى، فالمعنى فيها شامل يعالج ما يعتري كل إنسان وقد يقع معنى أية في قلبي ويقع معنى آخر لنفس الآية لشخص آخر وهذا هو الجمال القرآني

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وكلمة علمه لا تعني نقله نقلا وإنما أستنبط معانيه ورسائله وساعد الأخرين على ذلك وهذا كان شأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو نبي مرسل لم تكن جلساته مع صحابته فقط ليلقي عليهم بل ليعطيهم أيضا نماذج تربوية للتفكير والتفكر والفهم العميق الذي يبني قناعات مغروسه ثابته وليس تأثرا لحظيا ما إن إنتهت الجلسات إنتهى طيبها، وإلا كيف يكون التبليغ نافعا إن لم يكن تطبيقا عمليا ونموذجا تقتدي به الأمه؟!! علينا أولا أن نسعى أن نجعل التدبر والتفكر منهجا كفانا خلق جيل لا .يفكر لا يقوم سوى بالإستماع وتكرار ما يسمع لا أضاف لنفسه ولا أضاف لغيره فما كان إنتفاعه من تلك الجلسات سوى انتفاع لحظي أو مؤقت على أحسن الأحوال

ومازال البعض يقول ليس كل أحد قادر على التدبر، وأقول هذا ظنكم فعلا، الظن الذي صدقه الناس فعطلوا العقل وركنوه فصاروا لا يعرفون سوى سمعنا وأطعنا دون أن يبذلوا جهد لذلك، ولكن الأصل أن التدبر لكل إنسان والدليل على ذلك وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22)سورة القمر فالأصل التيسير وليس كما يحاول البعض أن يغرس فينا من قناعات فقط ليخلق مجموعة بشرية لا تفكر، ولا أحتاج أن أصف ما وصلنا إليه اليوم من تقهقر وتراجع

وعتابي الثاني لأؤلئك الذين يتهافتون لجلسات التدبر ثم لا يتفكرون فأعلموا أنكم تعيشون أزمة معلومات فإنكم لا تقومون سوى بتجميع معلومات قل من وعاها وأدركها ثم طبقها

إن ما نعانيه اليوم هو أننا لا نفكر وأننا نعتمد على فئة قليلة تقوم بالتفكير عنا مما يوقعنا في أخطاء ومطبات أسوأها الإتكالية وتعطيل إسم الله الغني، الله يريدنا أغنياء به ونحن نريد الغنى من الناس عبر التلقي، أين العزة والإستحقاق في بقاءنا مجرد متلقي لا يبذل جهدا، ليس بالضرورة أن يخرج عالم فتلك هبات يهبها الله لمن يشاء، ولكن الله أراد لك التدبر لكي تعيش مكرما وممكنا في الأرض ومعمرا ومضيفا ومؤثرا لحياتك قبل كل شيء ولا يكون التمكين دون إعمال العقل وإلا نحن والدواب في نفس المستوى

man facing to a challenge

ودعوتي هنا أحبتي مقيمي حلقات التدبر إجعلوا معروفكم أجمل واتبعوا أحسن القول أعينوا الناس على التدبر بتعليمهم التفكير، وتعليمهم كيفية إعمال عقولهم، وأعينوهم أن يشتغلوا على قلوبهم ليهيؤها للتدبر والتلقي فيعيشوا الجمال الذي عشتوه من قبلهم، أعينوهم وحثوهم على بذل الجهد بالعودة الدائمة والمستمرة لأيات كتاب الله الحكيم، علموهم أن لا يخافوا من المحاولة وأن الله يقبل خطئهم فيجزيهم على أجر المحاولة، عرفوهم أن التدبر أساس تعلم القرآن وأن هناك فرق شاسع بين التفسير والتدبر، أعطوهم طرق  التفكير وطرح الأسئلة، فوالله ذلك أكثر أثرا من مجرد نقل ما تعلمتموه أنتم أيها الطيبون ، فلنخرج من الثوب القديم الذي تصرون على لبسه دائما لم يعد التعليم يجدي بالتلقي كيف بالقرآن، وما كلمة إقرأ بكافية دون تعلم ودون تدوين بالقلم، وما يتنزل الكرم الإلهي إلا لمن أعد عقله وقلبه وروحه ونفسه للتلقي، وما يأتي ذلك إلا بتدريب النفس على التفكير وطرح الأسئلة وتأمل المعاني والدرر المكنونة التي لا يتحصل عليها إلا مجتهد أعمل عقله، لسنا مطالبين بأن نكون مفسرين فذلك له رجاله وأهله لكن الآيات صريحات واضحات بينات يقلن لك أن وظيفتك هي أن تتدبر، ولا أحتاج هنا إلى سرد ماذا يفعل التدبر بمن يتدبر فقد كتب العلماء وحثوا عليه .ولا يتسع المقام لذلك

أما أؤلئك الذين يحضرون جلسات التدبر هنيئا لكم ذلك فذلك شرف لا يحظى به محروم ولكن المؤمن الحقيقي يتبع أحسن القول فلا يكتفي أن يكون مجرد متلقي فالمؤمن فاعل في حياته وأن الخلافة في الأرض لا تكون إلا لمن سعى السعي الحقيقى في أن يصل لله سبحانه بالذكر وتدبر القرآن وتطبيق ما وعاه، وأعلموا أن المعنى الواقع على قلوبكم بعد بذل الجهد في فهمه هو ما يدفع النفس للعمل فكل معاني القرآني على إختلافها في الآية الواحدة فهي في الواقع متوافقة مع الفطرة السليمة الفطرة التي لو حرصت على الحفاظ عليها لعشت الحياة الطيبة التي وعدك الله بها مصداقا لقوله تعالى  (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة النحل الاية 97

وأي عمل أجل من ذكر الله وأي ذكر أعظم من تعبد الله عبر تدبر آياته ولو كنت تخالفني أكمل الأية التي قرأتها قبل قليل للأية التي بعدها في سورة النحل وأنظر ما الذكر الذي أشار الله إليه؟

وتذكروا نحن لا نحتاج للمعلومة حتى نكررها نحن نحتاج للعلم حتى نراجعه ونتفكر فيه ونضيف إليه ونطبقه لأجل حياة أفضل، فكيف تتوقعون تغييرا في أحد ونحن ننقل له خبرات الأخرين ولا نتيح له فرصة حتى المناقشة والسؤال.

اللهم متعنا بقلوب سليمه تفقه ما تقرأ من آياتك وتشرب من نهر جمالها حتى ترتوي فتحيا حياة طيبة كما وعدتنا إنك لا تخلف المعياد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Select your currency
USD دولار أمريكي